الثلاثاء، 5 يناير 2010

رحيلك أوجعنا حكيم القدس


بقلم الإعلامي: خالد الفقيه
مرت الأيام والشهور وبدأنا نعد السنون على رحيلك المفاجيء والمفجع منذ أن رحلت في صمت كما عشت في صمت، كانت أيام كانون الثاني الفاتح من عام 2008 تمر ببطيء وكآبة، وكانت سماء فلسطين ملبدة بالغيوم، غيوم القهر السوداء مع الإعلان عن أن رأس الإرهاب العالمي جورج بوش سيدوس بقدميه أرض فلسطين في زيارة وصفها البعض بالتاريخية، فكان منك الموقف الجريء والمتوقع بالعوة للتحشيد والتعبئة للتصدي لذلك القاتل والتنغيص على تلك الزيارة بقدر المستطاع وكنا ننتظر منك أن تتقدم الصفوف وأن تزأر بصوتك المجلجل لا أهلاً ولا سهلاً بقاتل الأطفال في العراق وأفغانستان وفلسطين والسودان وكل بقعة من هذا العالم المترامي الأطراف الذي حولته الإمبريالية العالمية لساحة دم مراق. ولكن القدر جاء مسرعاً وبدون سابق أنذار فتوقف الدماغ عن العمل فجأة وجاء الموت بظله الثقيل ليختطفك من بين ظهرانينا.

في الرابعة من صباح اليوم الثامن من العام الفين وثمانية تلقيت إتصالاً هاتفياً من بعض الأصدقاء الذين كان صوتهم أجش ومدهش بالبكاء ليقولوا لي البقية في عمرك الدكتور أحمد المسلماني توفي، همت في ثنايا الزمن وتزاحمت الأفكار والذكريات في مخيلتي وسيطرت على تلافيف دماغي كلمات المتصلين ولم أدر ما أفعل، وسيطرت علي الهواجس وفي اللحظة الأولى ولا أعلم ما السبب أتجهت أفكاري نحو تكذيب ما يقولون وحاولت إقناع ذاتي بأنها مزحة من العيار الثقيل ليس إلا، ولكن الهاتف لم يهدأ وجاء تأكيد الخبر من أكثر من مصدر ومع هذا كنت أميل إلى عدم التصديق فحكيم القدس كما كنا نحب أن نناديه وكما كان ينعته رفاقه وأحبته في العمل والمعتقلات التي كان ضيفاً دائماً عليها جاء منذ يومين من زيارة للهند قادته إلى أدغال وعوالم تلك الدولة المترامية الأطراف المتعددة اللغات واللهجات والثقافات والأفكار وراح يروي لنا الأقاصيص عن ما رأته عيناه، وقبل الزيارة المشؤومة لبوش بساعات كان يرسل الرسائل ويحض الأصدقاء والمعارف على المشاركة في المسيرة الوطنية الرافضة للزيارة كتعبير شعبي حاسم يبرهن من خلالها الشعب الفلسطيني إنتماءه القومي والحضاي في وجه سفاح القرن.

وفي زيارته للهند تعرض المسلماني في المطار لإجراءات تفتيش لم يسبق أن تعرض لها فأمن الطائرة قام باستدعائه وأجبروه على تسليمهم حذائه وألبسوه واحداً آخر بمقاسه ليتسلم الحذاء الأصلي من أحد مراكز التحقيق الصهيونية قبل وفاته وهو ما قد يفتح الباب واسعاً أمام العديد من الإحتمالات التي قد تكون السبب وراء تغييبه المفاجيء عن الساحة وهو الذي إعتاد المحتل منه الصلابة في الدفاع عن الحقوق الوطنية والثوابت الفلسطينية.

كان المسلماني بالفعل حكيماً مهنياً يهتم بالقدس ويعمل بكل ما أوتي من قوة وعزم للتخفيف من آلام من بقوا فيها يرزحون كما باقي أبناء شعبهم تحت نير الاحتلال العنصري الذي لم يبقي وسيلة تهجير أو خطة تخل بواقع المدينة الديمغرافي إلا وأتبعها بحقهم.

كان أبو وسام يتقدم صفوف المتصدين لأعمال بناء الجدار العنصري في القدس ومحيطها في بلعين والمعصرة وقلقيلية وحيثما أستطاع الوصول، وقبل أيام من صدور فتوى لاهاي التي تدين بناء الجدار العنصري كان المسلماني على رأس طاقم طبي من مؤسسة لجان العمل الصحي يرابط في خيمة الإعتصام التي أقيمت على مدخل مدينة القدس الشمالي عند حاجز الضاحية العسكري ليهتم بأمر وصحة المضربين عن الطعام هناك من فلسطينيين ومتضامنين أجانب.

ويحسب للمسلماني أنه كان واحداً ممن تنبهوا لسياسة التجهيل والإفقار وضرب الحياة الصحية للفلسطينيين في الضفة والقطاع والقدس المحتلة، فبادر أواسط ثمانينيات القرن الماضي لإنشاء اللجان الشعبية للخدمات الصحية في مدينة القدس ومن هناك كانت الإنطلاقة، فباشر مع عدد من زملائه العاملين في القطاع الصحي لتنفيذ أيام عمل طبية طوعية في الأرياف والمخيمات من جنين شمالاً وحتى رفح جنوباً، وجاءت الإنتفاضة الأولى لتصبح اللجان الشعبية للخدمات الصحية بمثابة الملاذ الصحي للجرحى والمكلومين من أبناء الشعب الفلسطيني وكان المنضزين تحت لواء اللجان من عاملين صحيين دوماً في الميدان لبلسمة الجراح والشد على أيدي المتضررين من سياسات القتل الممنهج التي إتبعها المحتل الصهيوني، هذا الأمر لم يرق للمحتل فسارع لملاحقة اللجان الشعبية للخدمات الصحية وكان نصيب المسلماني إيداعه السجن، ولكن هذه الملاحقة والتضييق لم يفت من عضد من أمنوا بحقوق شعبهم الصحية والوطنية والتنموية فولد إتحاد لجان العمل الصحي في الضفة والقطاع وواصل العاملون في هذا الإتحاد عطائهم دون كلل أو ملل بتوجيهات هذا الرجل حتى جاءت السلطة الفلسطينية ونتيجة لتغيير القوانين المعمول بها ما بين الضفة وغزة بات الجزء العامل في الضفة يعمل تحت أسم مؤسسة لجان العمل الصحي فيما أحتفظ الجزء الأخر باسم إتحاد لجان العمل الصحي دون أن تنفك العلاقة من حيث الؤية والرسالة والأهداف بين الطرفين.

ومع إندلاع إنتفاضة الأقصى في العام 2000 كانت عيادات ومراكز مستوصفات لجان العمل الصحي الملاذ للجرحى والمصابين وكان نصيب المسلماني مرةً أخرى السجن غير مرة سطر خلال فترات إعتقاله إنموذجاً في التحدي والصلابة وبحق كان أحمد أمةً في رجل بتوجه مهني ووطني وقومي، إنحاز دوماً إلى جانب الحقوق الوطنية والقومية وكان على الدوام إلى جانب المقاومة المشروعة من فلسطين إلى لبنان والعراق وأينما وجد الظلم كان موطنه.

رحل حكيم القدس الصدامي الذي لا يعرف المهادنة أو المساومة على الحق قبل أن يكمل مسيرته التي نذر حياته لها، ورغم عمره القصير زمنياً والكبير والمليء بالعطاء سطر أبا وسام فلسفة بقيت لمن بعده منارةً يستنيرون بها رغم الوجع الذي خلفه رحيله فيهم. نعم كان حنطة ويدين عاريتين عاش متقشفاً ومات كادحاً.

راهن الكثيرون على إندثار أرثه بعد رحيله ولكن ما خلفه فينا وفيمن أحبوه كان الضمانة الحقيقية للإستمرار على النهج الحي الذي لا يموت ما بقي هنالك مخلصون للوعي الجمعي الذي خطه الراحل الكبير.وفي ذكراه نقول: سلام عليك حكيم القدس ونستميحك عذراً وإن كنا نعلم أن ما سنقوله سيزعجك ولا يرضيك إن رحيلك أوجعنا، فما كنا ننتظره منك كبير وكثير، وما كنت تتمناه لم يتحقق في حياتك، ولكن نقول أن ما نذرت نفسك لأجله سيرورة حياة ونهج لا يعرف التفريط لن يضيع أبداً ما دام هنالك مخلصون لما آمنت به وكرسته مسيرة حياة وممات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق